فصل: الشّكّ ينتفع به المتّهم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


شَفَة

التّعريف

1 - الشّفة في اللّغة واحدة الشّفتين، وهما طبقا الفم من الإنسان، وأصلها شفهة، لأنّ تصغيرها شفيهة‏.‏ وقيل‏:‏ أصلها شفو‏.‏ قال الفيّوميّ نقلاً عن الأزهريّ‏:‏ تجمع الشّفة على شفهات وشفوات، والهاء أقيس، والواو أعمّ‏.‏

ولا تكون الشّفة إلاّ من الإنسان، أمّا سائر الحيوانات فتستعمل فيها كلمات أخرى، كالمشفر لذي الخفّ، والجحفلة لذي الحافر، والمنسر والمنقار لذي الجناح، وهكذا‏.‏

وفي الاصطلاح تطلق الشّفة على معنيين‏:‏

الأوّل‏:‏ المعنى اللّغويّ، أي‏:‏ طبقة الفم من الإنسان، وقد حدّها بعض الفقهاء بهذا المعنى أنّها في عرض الوجه إلى الشّدقين، وقيل ما يرتفع عند انطباق الفم‏.‏ وفي الطّول إلى ما يستر اللّثة‏.‏ والثّاني‏:‏ شرب بني آدم والبهائم بالشّفاه دون سقي الزّرع‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ هذا أصله‏.‏ والمراد استعمال بني آدم لدفع العطش أو للطّبخ أو الوضوء أو الغسل أو غسل الثّياب، ونحوها، والمراد به في حقّ البهائم الاستعمال للعطش ونحوه ممّا يناسبها‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الشّرب‏:‏

2 - الشّرب لغةً‏:‏ نصيب من الماء، وشرعاً‏:‏ نوبة الانتفاع بالماء سقياً للزّراعة والدّوابّ، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ‏}‏‏.‏

وعلى ذلك فالشّفة أخصّ من الشّرب لاختصاصها بالحيوان دونه‏.‏

الحكم الإجماليّ

أوّلاً‏:‏ حكم الشّفة بالمعنى الأوّل‏:‏ ‏(‏عضو الإنسان‏)‏

3 - ذكر الفقهاء أحكاماً تتعلّق بالشّفة بهذا المعنى في موضوعين‏:‏ غسلها حين الوضوء والغسل، والجناية عليها بالقطع أو إذهاب المنافع‏.‏

أ - غسل الشّفتين حين الوضوء والغسل‏:‏

4 - اتّفق الفقهاء على أنّ ظاهر الشّفتين، أي ما يظهر عند انضمامهما ضمّاً طبيعيّاً بغير تكلّف جزء من الوجه، فيجب غسلهما في الوضوء والغسل‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ‏}‏‏.‏ أمّا ما ينكتم عند الانضمام فهو تبع للفم، فلا يجب غسله في الوضوء عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - بل يسنّ‏.‏

وكذلك في الغسل عند المالكيّة والشّافعيّة‏.‏ خلافاً للحنفيّة، حيث قالوا‏:‏ إنّ غسل الفم والأنف فرض في الغسل‏.‏

أمّا الحنابلة فقد صرّحوا بأنّ الفم والأنف من الوجه فتجب المضمضة والاستنشاق في الطّهارتين‏:‏ الصّغرى ‏"‏ الوضوء ‏"‏، والكبرى ‏"‏ الغسل ‏"‏‏.‏

وتفصيل الموضوع في مصطلحات‏:‏ ‏(‏غسل، مضمضة، وضوء‏)‏‏.‏

ب - الجناية على الشّفتين‏:‏

5 - الجناية على الشّفتين إذا كانت عمداً يجب فيها القصاص عند جمهور الفقهاء إذا تحقّقت شروطه من المماثلة والمساواة‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ قصاص‏)‏‏.‏

أمّا إذا كانت خطأً ففي قطع كلتا الشّفتين دية كاملة باتّفاق الفقهاء، لحديث عمرو بن حزم‏:‏ » وفي الشّفتين الدّية «‏.‏

والجمهور على أنّ في قطع كلّ واحدة منهما نصف الدّية من غير تفريق، لأنّ العضوين إذا وجبت فيهما دية ففي أحدهما نصف الدّية كاليدين والرّجلين‏.‏

وفي رواية عند الحنابلة يجب في الشّفة العليا ثلث الدّية، وفي السّفلى الثّلثان، لأنّ المنفعة بها أعظم، لأنّها هي الّتي تتحرّك وتحفظ الرّيق والطّعام‏.‏

وكما تجب الدّية في قطع الشّفتين تجب كذلك في إذهاب منافعهما، بأن ضرب الشّفتين فأشلّهما، أو تقلّصتا فلم تنطبقا على الأسنان‏.‏

وتفصيل الموضوع في‏:‏ ‏(‏ديات‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ الشّفة بمعنى‏:‏ الشّرب

6 - تعرّض الفقهاء لحكم الشّفة بمعنى شرب الإنسان والبهائم بالشّفاه عند بيان المنافع المشتركة، وحقوق الارتفاق، وقد قسم أكثر الفقهاء المياه باعتبار الشّرب إلى أربعة أقسام، قال الموصليّ الحنفيّ‏:‏

المياه أنواع‏:‏ الأوّل ماء البحر، وهو عامّ لجميع الخلق الانتفاع به بالشّفة وسقي الأراضي وشقّ الأنهار، لا يمنع أحد من شيء من ذلك كالانتفاع بالشّمس والهواء‏.‏

والثّاني‏:‏ الأودية والأنهار العظام كجيحون وسيحون والنّيل والفرات ودجلة‏.‏ فالنّاس مشتركون فيه في الشّفة وسقي الأراضي ونصب الأرحيّة والدّوالي إذا لم يضرّ بالعامّة‏.‏

والثّالث‏:‏ ما يجري في نهر خاصّ لقرية، فلغيرهم فيه شركة في الشّفة، وهو الشّرب والسّقي للدّوابّ، ولهم أخذ الماء للوضوء وغسل الثّياب والطّبخ لا غير‏.‏ والبئر والحوض حكمهما حكم النّهر الخاصّ‏.‏

والرّابع‏:‏ ما أحرز في جبّ ونحوه، فليس لأحد أن يأخذ منه شيئاً بدون إذن صاحبه، وله بيعه، لأنّه ملكه بالإحراز، ولو كانت البئر أو العين أو النّهر في ملك رجل كان له منع من يريد الشّرب من الدّخول في ملكه إن كان يجد غيره بقربه في أرض مباحة‏.‏ فإن لم يجد فإمّا أن يتركه يأخذ بنفسه، أو يخرج الماء إليه، فإن منعه وهو يخاف العطش على نفسه أو مطيّته فله أن يقاتله بالسّلاح‏.‏ وفي المحرز بالإناء يقاتله بغير سلاح‏.‏

ومثله ما ذكره سائر الفقهاء مع تفصيل وخلاف في بعض الفروع، ينظر في مصطلح ‏(‏شرب، ومياه‏)‏‏.‏

شَفِيع

انظر‏:‏ شفعةً

شَقّ

انظر‏:‏ قبر

شُكْر

التّعريف

1 - الشّكر‏:‏ مصدر شكرته وشكرت له أشكر شكراً وشكوراً وشكراناً‏.‏

وهو عند أهل اللّغة‏:‏ الاعتراف بالمعروف المسدى إليك ونشره والثّناء على فاعله‏.‏ ولا يكون إلاّ في مقابلة معروف ونعمة‏.‏ وشكر النّعمة مقابل كفرها‏.‏ قال اللّه تعالى في حكاية قول لقمان‏:‏ ‏{‏وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ‏}‏‏.‏

والشّكر‏:‏ هو ظهور أثر النّعمة على اللّسان والقلب والجوارح بأن يكون اللّسان مقرّاً بالمعروف مثنياً به، ويكون القلب معترفاً بالنّعمة، وتكون الجوارح مستعملةً فيما يرضاه المشكور‏.‏ على حدّ قول الشّاعر‏:‏

أفادتكم النّعماء منّي ثلاثةً *** يدي ولساني والضّمير المحجّبا

والشّكر للّه في الاصطلاح‏:‏ صرف العبد النّعم الّتي أنعم اللّه بها عليه في طاعته‏.‏ أو فيما خلقت له‏.‏ وشكر اللّه للعبد معناه أنّه يزكو عنده القليل من العمل فيضاعف لعامله الجزاء‏.‏ وفي الحديث‏:‏ » أنّ رجلاً رأى كلباً يأكل الثّرى من العطش، فأخذ الرّجل خفّه فجعل يغرف له به حتّى أرواه، فشكر اللّه له، فأدخله الجنّة «، ولذا كان من أوصافه تعالى‏:‏ ‏"‏ الشّكور ‏"‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ‏}‏‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المدح‏:‏

2 - المدح لغةً‏:‏ حسن الثّناء‏.‏ والمدح يكون للحيّ وغيره حتّى أنّ من رأى لؤلؤةً ذات حسن فوصفها بالحسن فقد مدحها، والمدح على الإحسان يكون قبله أو بعده، ولا يكون الشّكر إلاّ بعده‏.‏

ب - الحمد‏:‏

3 - الحمد‏:‏ هو الثّناء على المحمود بجميل صفاته وأفعاله على قصد التّعظيم، ونقيض الحمد الذّمّ‏.‏

فالحمد أعمّ من الشّكر من جهة أنّ الشّكر لا يكون إلاّ على نعمة أسداها المشكور إلى الشّاكر خاصّةً، والحمد يكون في مقابلة الإنعام على الشّاكر أو غيره، ويكون في غير مقابلة نعمة أصلاً بل لمجرّد اتّصاف المحمود بالأوصاف الحسنة والفضائل‏.‏ فلا يقال‏:‏ شكرنا اللّه على حكمته وعلمه، ويقال‏:‏ حمدناه على ذلك، كما هو محمود على إحسانه وفضله، والشّكر أعمّ من الحمد من جهة أنّ الشّكر يكون باللّسان والقلب والجوارح، والحمد ليس إلاّ باللّسان، فيجتمع الحمد والشّكر في الثّناء باللّسان على النّعمة، وينفرد الحمد في الثّناء باللّسان على الأوصاف الذّاتيّة ونحوها، وينفرد الشّكر فيما يكون بالقلب والجوارح‏.‏

وقد ورد في الحديث‏:‏ » الحمد رأس الشّكر فمن لم يحمد اللّه لم يشكره «‏.‏

أحكام الشّكر

4 - الشّكر نوعان‏:‏

شكر للّه تعالى، وشكر لعباد اللّه‏.‏

أوّلاً‏:‏ شكر اللّه تعالى

الحكم التّكليفيّ

5 - شكر اللّه تعالى على نعمه واجب شرعاً من حيث الجملة، فلا يجوز تركه بالكلّيّة‏.‏

وقد استدلّ الحليميّ لذلك بالآيات الّتي فيها الأمر، نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ‏}‏‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

ثمّ قال الحليميّ‏:‏ فثبت بهاتين الآيتين ونحوهما وجوب شكر اللّه تعالى على العباد لنعمه السّابغة عليهم‏.‏

ثمّ احتجّ للوجوب أيضاً بقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ قال‏:‏ ومعلوم أنّ المسألة عن النّعيم هي المسألة عن شكره‏.‏

وقد اختلف في أنّ شكر اللّه تعالى على نعمه هل وجب بالعقل ثمّ جاء الشّرع مقرّراً لذلك أو لم يجب إلاّ بالشّرع‏؟‏

فقد ذهب إلى الأوّل معظم مشايخ الحنفيّة ونصّ صدر الشّريعة على أنّه مذهب الحنفيّة، وإليه ذهب المعتزلة أيضاً‏.‏

وذهب الأشعريّة إلى أنّه لم يجب بمجرّد العقل، لأنّ العقل لا مجال له في أمور الآخرة من إثبات الثّواب والعقاب‏.‏ وتنظر المسألة في الملحق الأصوليّ‏.‏

وقال الرّازيّ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً‏}‏ المراد من الشّاكر الّذي يكون مقرّاً معترفاً بوجوب الشّكر عليه، ومن الكفور الّذي لا يقرّ بذلك إمّا لأنّه ينكر الخالق أو لأنّه ينكر وجوب شكره‏.‏

والإكثار من الشّكر مستحبّ‏.‏ وللشّكر مواضع يندب فيها كحمد اللّه على الطّعام والشّراب والملبس‏.‏

وانظر‏:‏ ‏(‏تحميد‏)‏‏.‏

فضل الشّكر

6 - وردت الشّريعة بإثبات فضل الشّكر من أوجه كثيرة، منها‏:‏

أ - إنّ اللّه تعالى أثنى في كتابه على أهل الشّكر ووصف بذلك بعض خواصّ خلقه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شَاكِراً لأَنْعُمِهِ‏}‏‏.‏

وقال عن نوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً‏}‏‏.‏

ب - إنّه تعالى جعله الهدف من تفضّله بالنّعم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏

وقال في شأن تسخيره الأنعام‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏

ج - إنّه تعالى وعد الشّاكرين بأحسن الجزاء فقال‏:‏ ‏{‏وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ‏}‏ وبيّن أنّه تعالى وإن كان يحبّ الشّاكرين إلاّ أنّه لا يعود عليه شيء من نفع شكرهم بل نفعه لهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ‏}‏‏.‏

د - إنّه جعله سبباً للمزيد من النّعم، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ‏}‏‏.‏

هـ – إنّه تعالى سمّى نفسه شاكراً شكوراً، بأن يقبل العمل القليل ويثني على فاعله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ‏}‏‏.‏

و - قلّة المتّصفين بكثرة الشّكر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ‏}‏ قال ابن القيّم‏:‏ قلّة أهل الشّكر في العالمين يدلّ على أنّهم خواصّ اللّه تعالى‏.‏

ز - ما ورد من دعاء الصّالحين أن يلهمهم اللّه تعالى شكر نعمه عند رؤيتها كقول سليمان‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ‏}‏‏.‏

وورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » ربّ اجعلني لك شكّاراً «‏.‏

وأوصى من يحبّه أن يستعين باللّه على شكره فقال‏:‏ » يا معاذ واللّه إنّي لأحبّك‏.‏‏.‏ أوصيك يا معاذ، لا تدعنّ في دبر كلّ صلاة تقول‏:‏ اللّهمّ أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك «‏.‏

ح - إنّ اللّه تعالى قرن الشّكر بالصّبر فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏ في أربعة مواضع من القرآن، فالشّكر على النّعم أو زوال النّقم، والصّبر عند زوال النّعم أو حلول البلاء‏.‏ ولأنّ الصّبر على الطّاعة عين الشّكر عليها‏.‏

وقد روي في الحديث‏:‏ » الإيمان نصفان فنصف في الصّبر ونصف في الشّكر «‏.‏

وروي عن الشّعبيّ موقوفاً‏.‏

ما يكون عليه الشّكر

وهو ثلاثة أنواع‏:‏

7 - الأوّل‏:‏ الشّكر للّه تعالى على نعمه الّتي أنعم بها على الشّاكر، والعبد في كلّ أحواله إنّما هو في نعم اللّه تعالى، وقد نبّه إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ وكثير من آيات القرآن واردة في تعداد تلك النّعم بالتّفصيل، وفي لفت الأنظار إلى وجوه اللّطف فيها، وإلى الاعتبار بها، وبيان أنّ اللّه تعالى إنّما وضعها ليبتلي بها الإنسان هل يشكر أم يكفر‏.‏

فمن ذلك نعمة خلق الأرض فراشاً والسّماء بناءً والشّمس ضياءً والقمر نوراً وتقدير الأقوات في الأرض وإنزال المطر من السّماء شراباً وإنبات الزّرع فيها وسائر ما يصلح عليه بدن الإنسان، وخلق الأنعام وما جعله فيها للنّاس من منافع من لحمها ولبنها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وركوبها والتّجمّل بها‏.‏

ومن ذلك نعمة خلق الإنسان في أحسن تقويم وخلق الأسماع والأبصار والأفئدة لتكون وسائل للإدراك، وتعليم الإنسان البيان‏.‏

ومن ذلك نعمة إرسال الرّسل وإنزال الكتب والدّلالة على طرق الإيمان‏.‏ وهذه كلّها نعم عامّة لم يخصّ بها مؤمن من كافر‏.‏

ومنها نعم خاصّة وأعظمها التّوفيق للإيمان والاهتداء للحقّ والتّيسير للعمل الصّالح، لأنّ ذلك سبب للخلاص من العذاب في الآخرة والتّحصيل لنعم اللّه فيها‏.‏

قال الحليميّ‏:‏ وأولى النّعم بالشّكر نعمة اللّه تعالى على العبد بالإيمان والإرشاد إلى الحقّ، والتّوفيق لقبوله، لأنّه هو الغرض الّذي ليس بتابع لما سواه، وكلّ غرض سواه فهو تابع له، والتّيسير له نعمة عظيمة تقتضي الشّكر لها بالانتهاء عن المعاصي وإتباع الإيمان حقوقه، لأنّ الإيمان باللّه عهد بينه وبين العبد ولكلّ عهد وفاء‏.‏ وكلّ عبادة تتلو الإيمان من فعل شيء فهو شكر لنعم اللّه تعالى، والتّيسير لكلّ شيء من ذلك نعمة يجب شكرها بالقلب واللّسان‏.‏

8- النّوع الثّاني‏:‏ الشّكر على دفع النّقم سواء اندفعت عنه أو عن نحو ولده أو عموم المسلمين وذلك كذهاب مرض أو انحسار طاعون أو عدوّ، ونحوهما ممّا يخشى ضرره كغرق أو حريق ومنه قول أهل الجنّة‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ‏}‏‏.‏

واحتجّ النّوويّ لذلك بحديث‏:‏ » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به أتي بقدحين من خمر ولبن فنظر إليهما، فأخذ اللّبن، فقال له جبريل‏:‏ الحمد للّه الّذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر لغوت أمّتك «‏.‏

وإذا رأى السّليم مبتلىً في عقله وبدنه، سنّ أن يحمد اللّه تعالى على العافية، لما ورد‏:‏ » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سجد لرؤية زمن «‏.‏

وورد أنّ السّليم يقول‏:‏ » الحمد للّه الّذي عافاني ممّا ابتلاك به «‏.‏

النّوع الثّالث‏:‏ الشّكر عند المكروهات من البلوى والمصائب والآلام‏:‏

9 - وهو مشروع، لحديث أبي موسى أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » إذا مات ولد العبد قال اللّه لملائكته‏:‏ قبضتم ولد عبدي‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، فيقول‏:‏ قبضتم ثمرة فؤاده‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم‏.‏ فيقول‏:‏ ماذا قال عبدي‏؟‏ فيقولون‏:‏ حمدك واسترجع، فيقول اللّه‏:‏ ابنوا لعبدي بيتاً في الجنّة، وسمّوه بيت الحمد «‏.‏

ووجه الشّكر عليها ما فيها من تكفير الخطايا ورفع الدّرجات، وما في الصّبر عليها من الأجر‏.‏ وقال ابن القيّم في توجيه ذلك‏:‏ يكون الشّكر كظماً للغيظ الّذي أصابه، وستراً للشّكوى، ورعايةً للأدب، وسلوكاً لمسلك العلم، لأنّه شاكر للّه شكر من رضي بقضائه‏.‏

ولذا صرّح الحنابلة أنّه يسنّ للمريض إن سئل عن حاله أن يحمد اللّه تعالى إذا أراد الشّكوى إلى طبيب‏.‏ قالوا‏:‏ لحديث ابن مسعود مرفوعاً‏:‏ » إذا كان الشّكر قبل الشّكوى فليس بشاك «‏.‏

قال البهوتيّ‏:‏ وكان أحمد أوّلاً يحمد اللّه فقط فلمّا دخل عليه عبد الرّحمن طبيب السّنّة وحدّثه الحديث عن بشر بن الحارث صار إذا سأله قال‏:‏ أحمد اللّه إليك، أجد كذا وكذا‏.‏

ما يتحقّق به شكر اللّه تعالى

10 - يتحقّق شكر اللّه تعالى على النّعمة بأمور‏:‏

أوّلها‏:‏ معرفة النّعمة، بأن يعرف أنّها نعمة، ويعرف قدرها ويعرف وجه كونها نعمةً ويستحضرها في الذّهن ويميّزها، إذ كثير من النّاس تحسن إليه وهو لا يدري‏.‏

وقد نبّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى معرفة قدر النّعم بقوله‏:‏ » انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة اللّه عليكم «‏.‏

والثّاني‏:‏ معرفة أنّها من اللّه تعالى، فمن لم يقرّ باللّه، أو لم يقرّ بأنّ النّعم منه، لم يتصوّر شكره له، وإذا عرف أنّها من اللّه أحبّه عليها‏.‏

والثّالث‏:‏ قبول النّعمة بإظهار الفقر والحاجة إليها، ومعرفة أنّ وصولها إليه بغير استحقاق من العبد ولا بذل ثمن بل بمحض فضل اللّه تعالى‏.‏

والرّابع‏:‏ الثّناء على المنعم بها، وعدم كتمانها فإنّ كتمانها كفران لها، والثّناء إمّا عامّ كوصفه تعالى بالجود والكرم والبرّ والإحسان، وإمّا خاصّ وهو التّحدّث بتلك النّعمة وإسناد التّفضّل بها إلى المنعم بها، وحمده عليها، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ‏}‏‏.‏

وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » التّحدّث بنعمة اللّه شكر وتركها كفر «‏.‏

والخامس‏:‏ ترك استعمالها فيما يكرهه المنعم بها، والعمل بما يرضيه فيها‏.‏

والسّادس‏:‏ فعل الطّاعات شكراً على النّعم، كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏الآية‏.‏

وورد عن المغيرة بن شعبة‏:‏ » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قام حتّى تفطّرت قدماه‏.‏ فقيل يا رسول اللّه‏:‏ أتتكلّف هذا وقد غفر لك‏؟‏ قال‏:‏ أفلا أكون عبداً شكوراً «‏.‏

11 – وضدّ شكر النّعم الكفران بها، وهو غير الكفر المخرج عن الملّة، ويسمّيه العلماء ‏"‏ كفر النّعمة ‏"‏‏.‏

فمن وجوه الكفر بها أن لا يعرف النّعمة، أو أن يبخسها حقّها من التّقدير‏.‏

ومنها أن ينكر أنّها من اللّه تعالى، أو ينسبها إلى غير المتفضّل بها كما يفعل أهل الشّرك إذ يشكرون أندادهم وأصنامهم على ما أنعم به اللّه عليهم، وكما في الحديث القدسيّ‏:‏ » من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب «‏.‏

ومنها أن يعتقد أنّه حصّل ما حصّل من النّعم بحوله وقوّته، أو كما قال قارون‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي‏}‏‏.‏

ومنها أن يعتقد أنّ ما حصل له من النّعم حصل باستحقاق له على اللّه، لا من فضل اللّه عليه‏.‏ ومنها‏:‏ ترك الثّناء بها على المنعم بها وترك التّحدّث بها، وكذلك كتمانها بحيث لا يراها النّاس لحديث‏:‏ » إنّ اللّه يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده «‏.‏

وقيّد الحليميّ هذا بأن لا يكون فيه احتياط لنفسه‏.‏

ومنها‏:‏ التّعالي بها على سائر عباد اللّه والزّهو والمكاثرة والبغي والمفاخرة‏.‏

ومنها‏:‏ استعمالها في معصية اللّه تعالى، ومنع الحقوق الشّرعيّة الواجبة فيها‏.‏

الشّكر عند تجدّد النّعم

12 - يستحبّ تجديد الشّكر عند تجدّد النّعم لفظاً بالحمد والثّناء، لما في الحديث‏:‏ » إنّ اللّه ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشّربة فيحمده عليها « وفيه‏:‏ » الطّاعم الشّاكر بمنزلة الصّائم الصّابر «‏.‏

وقد ورد في السّنّة استحباب أذكار بصيغ معيّنة فيها التّحميد عند حصول نعم معيّنة ولمعرفة ذلك ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏تحميد، وذكر‏)‏‏.‏

ويكون الشّكر على ذلك أيضاً بفعل قربة من القرب، وقد ذكر بعض الشّافعيّة من ذلك أن يصلّي ركعتين أو يتصدّق مع سجود الشّكر أو دونه‏.‏

وقال القليوبيّ لا يجوز التّقرّب إلى اللّه بصلاة بنيّة الشّكر‏.‏

ومن ذلك أن يذبح ذبيحةً أو يصنع دعوةً، وقد ذكر الفقهاء الدّعوات الّتي تصنع لما يتجدّد من النّعم كالوكيرة الّتي تصنع للمسكن المتجدّد، والنّقيعة الّتي تصنع لقدوم الغائب، والحذّاق وهو ما يصنع عند ختم الصّبيّ القرآن‏.‏

ومذهب الحنابلة، وهو الرّاجح من مذهب الشّافعيّة، أنّ هذه الدّعوات مستحبّة‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ وليس لهذه الدّعوات - يعني ما عدا وليمة العرس والعقيقة - فضيلة تختصّ بها، ولكن هي بمنزلة الدّعوة لغير سبب حادث، فإذا قصد بها فاعلها شكر نعمة اللّه عليه، وإطعام إخوانه، وبذل طعامه، فله أجر ذلك إن شاء اللّه‏.‏

وانظر مصطلح‏:‏ ‏(‏دعوة‏)‏‏.‏

وإذا نذر الإنسان أن يصنع القربة عند تجدّد النّعمة واندفاع النّقمة فذلك نذر تبرّر، وحكمه وجوب الوفاء به‏.‏

انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏نذر‏)‏‏.‏

وممّا يسنّ عند تجدّد النّعم واندفاع النّقم ممّا له وقع أن يسجد للّه تعالى عند حصول ذلك من حيث لا يحتسب الإنسان وهذا قول الجمهور خلافاً للمالكيّة‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏سجود الشّكر‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ شكر العباد على المعروف

13 - شكر المنعم أمر لم يختلف العقلاء في استحسانه‏.‏ وكلّ منعم عليه ينبغي له الشّكر لمن أولاه تلك النّعمة ولو كانت قليلةً لحديث‏:‏ » من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر النّاس لم يشكر اللّه «‏.‏

وحديث‏:‏ » إنّ أشكر النّاس للّه أشكرهم للنّاس «‏.‏

وإذا كان اللّه تعالى شكر المحسنين وهو غنيّ عنهم فالعبد أولى بأن يشكر لمن أحسن إليه، وقد أمر اللّه تعالى بالشّكر للوالدين وقرن ذلك بالشّكر له لعظم فضلهما فقال‏:‏ ‏{‏أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ‏}‏‏.‏

والشّكر بالفعل هو الأصل، بأن يجزي بالمعروف معروفاً، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » من أولي نعمةً فليشكرها، فإن لم يقدر فليظهر ثناءً حسناً «‏.‏

قال الحليميّ‏:‏ وهذا يدلّ على أنّ الشّكر المذكور في هذا الحديث أريد به الشّكر بالفعل ولولا ذلك لم يقل‏:‏ » فإن لم يقدر فليظهر ثناءً حسناً « فإذا كانت النّعمة فعلاً كان الشّكر إحساناً مكان إحسان، فإن لم يتيسّر قام الذّكر الحسن والثّناء والبشر مقامه‏.‏

وروي عن أنس - رضي الله عنه - قال‏:‏ » إنّ ناساً من المهاجرين قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، ما رأينا قوماً أحسن مواساةً في قليل ولا أحسن بذلاً من كثير منهم، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنة، لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كلّه، فقال‏:‏ أما ما دعوتهم وأثنيتم عليهم مكافأةً أو شبه المكافأة «‏.‏

وفي الحديث‏:‏ » من صنع إليه معروف فقال لفاعله‏:‏ جزاك اللّه خيراً فقد أبلغ في الثّناء «‏.‏ ومثله ما في الحديث أيضاً‏:‏ » من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتّى تروا أنّكم قد كافأتموه «‏.‏

وفي رواية‏:‏ » من أعطي عطاءً فوجد فليجز به، ومن لم يجد فليثن فإنّ من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر «‏.‏

استدعاء الشّكر من المنعم عليه

14 - إنّه وإن كان الشّكر على المعروف مستحبّاً إلاّ أنّ طلب مسدي المعروف أن يشكر عليه خلاف الأولى، وخاصّةً فيما من شأنه أن يعمل للّه، ولذلك أثنى اللّه تعالى على من يحسن إلى الضّعفاء دون أن ينتظر منهم شكراً أو جزاءً قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً‏}‏‏.‏

قال مجاهد وسعيد بن جبير‏:‏ أما واللّه ما قالوه بألسنتهم ولكن علم اللّه به من قلوبهم فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب ولو أحبّ أن يحمد على المعروف لم يحرم‏.‏

وقد ورد أنّ زيد بن ثابت شهد لأبي سعيد الخدريّ عند مروان بن الحكم، فلمّا خرجا من عنده قال له‏:‏ أولا تحمدني على ما شهدت الحقّ‏؟‏

قال الرّازيّ‏:‏ الإحسان إلى الغير إمّا أن يكون للّه تعالى وحده، وإمّا أن يكون لغير اللّه تعالى، إمّا طلباً لمكافأة، أو طلباً لحمد أو ثناء‏.‏ وتارةً يكون للّه تعالى ولغيره‏.‏

والنّوع الأوّل هو المقبول عند اللّه تعالى، والأخير هو الشّرك‏.‏ أ هـ‏.‏

وليس هو الشّرك المخرج عن الملّة بل هو الشّرك في القصد وهو يحبط العمل الّذي أشرك به، دون غيره، لأنّ اللّه تعالى لا يقبل إلاّ ما كان له خالصاً‏.‏ وأمّا إذا عمله طلباً للمكافأة أو الحمد فله ما طلب، وليس ذلك حراماً إلاّ أن يظهر أنّه للّه ويبطن خلاف ذلك، لأنّ ذلك يكون رياءً‏.‏ فإن أحبّ أن يشكر على ما لم يفعل من الخير لم يكن ذلك حراماً خلافاً لما يتبادر من قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ فقد نزلت في المنافقين‏.‏

شَكّ

تعريفه

1 - الشّكّ لغةً‏:‏ نقيض اليقين وجمعه شكوك‏.‏ يقال شكّ في الأمر وتشكّك إذا تردّد فيه بين شيئين، سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الآخر‏.‏

قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ‏}‏ أي غير مستيقن، وهو يعمّ حالتي الاستواء والرّجحان‏.‏

وفي الحديث الشّريف‏:‏ » نحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم « قيل‏:‏ إنّ مناسبته ترجع إلى وقت نزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏‏.‏ حيث قال قوم - إذ ذاك - شكّ إبراهيم ولم يشكّ نبيّنا، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - تواضعاً منه وتقديماً لإبراهيم على نفسه -‏:‏ » نحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم « أي أنا لم أشكّ مع أنّني دونه فكيف يشكّ هو‏؟‏‏.‏

والشّكّ في اصطلاح الفقهاء‏:‏ استعمل في حالتي الاستواء والرّجحان على النّحو الّذي استعملت فيه هذه الكلمة لغةً فقالوا‏:‏ من شكّ في الصّلاة، ومن شكّ في الطّلاق، أي من لم يستيقن، بقطع النّظر عن استواء الجانبين أو رجحان أحدهما‏.‏ ومع هذا فقد فرّقوا بين الحالتين في جزئيّات كثيرة‏.‏

والشّكّ في اصطلاح الأصوليّين‏:‏ هو استواء الطّرفين المتقابلين لوجود أمارتين متكافئتين في الطّرفين أو لعدم الأمارة فيهما‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - اليقين‏:‏

2 - اليقين مصدر يقن الأمر ييقن إذا ثبت ووضح، ويستعمل متعدّياً بنفسه وبالياء، ويطلق - لغةً - على العلم الحاصل عن نظر واستدلال ولهذا لا يسمّى علم اللّه يقيناً‏.‏

وهو عند علماء الأصول‏:‏ الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الثّابت‏.‏ فاليقين ضدّ الشّكّ‏.‏ فيقال شكّ وتيقّن ولا يقال شكّ وعلم لأنّ العلم اعتقاد الشّيء على ما هو به على سبيل الثّقة‏.‏

ب - الاشتباه‏:‏

3 - الاشتباه هو مصدر اشتبه، يقال‏:‏ اشتبه الشّيئان وتشابها، إذا أشبه كلّ واحد منهما الآخر، كما يقال‏:‏ اشتبه عليه الأمر أي اختلط والتبس لسبب من الأسباب أهمّها الشّكّ، فالعلاقة بينهما - إذاً - سببيّة حيث يعدّ الشّكّ سبباً هامّاً من أسباب الاشتباه‏.‏

كما قد يكون الاشتباه سبباً للشّكّ‏.‏

ج - الظّنّ‏:‏

4 - الظّنّ مصدر ظنّ من باب قتل وهو خلاف اليقين، ويطلق عند الأصوليّين على الطّرف الرّاجح من الطّرفين‏.‏

وقد يستعمل مجازاً بمعنى اليقين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ‏}‏‏.‏

وقد تقدّم أنّ الفقهاء لا يفرّقون غالباً بين الظّنّ والشّكّ‏.‏

د - الوهم‏:‏

5 - الوهم مصدر وهم وهو عند الأصوليّين طرف المرجوح من طرفي الشّكّ‏.‏

وهو ما عبّر عنه الحمويّ - نقلاً عن متأخّري الأصوليّين - حيث قال‏:‏ الوهم تجويز أمرين أحدهما أضعف من الآخر‏.‏

والمتأكّد أنّه لا يرتقي لإحداث اشتباه إذ ‏"‏ لا عبرة للتّوهّم ‏"‏‏.‏ وبناءً على ذلك ذكر الفقهاء أنّه لا يثبت حكم شرعيّ استناداً على وهم، ولا يجوز تأخير الشّيء الثّابت بصورة قطعيّة بوهم طارئ‏.‏

أقسام الشّكّ باعتبار حكم الأصل الّذي طرأ عليه

6 - ينقسم الشّكّ - إجمالاً - بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام‏:‏

القسم الأوّل‏:‏ شكّ طرأ على أصل حرام مثل أن يجد المسلم شاةً مذبوحةً في بلد يقطنه مسلمون ومجوس فلا يحلّ له الأكل منها حتّى يعلم أنّها ذكاة مسلم، لأنّ الأصل فيها الحرمة ووقع الشّكّ في الذّكاة المطلوبة شرعاً، فلو كان معظم سكّان البلد مسلمين جاز الإقدام عليها والأكل منها عملاً بالغالب المفيد للحلّيّة‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ شكّ طرأ على أصل مباح كما لو وجد المسلم ماءً متغيّراً فله أن يتطهّر منه مع احتمال أن يكون تغيّر بنجاسة، أو طول مكث، أو كثرة ورود السّباع عليه ونحو ذلك استناداً إلى أنّ الأصل طهارة المياه‏.‏ مع العلم أنّ اللّه تعالى لم يكلّف المؤمنين تجشّم البحث للكشف عن طهارته أو نجاسته تيسيراً عليهم، حيث ورد في الأثر أنّ عمر بن الخطّاب - رضي الله تعالى عنه - خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص - رضي الله عنه - حتّى وردوا حوضاً فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض‏:‏ يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السّباع‏؟‏ فقال عمر‏:‏ يا صاحب الحوض لا تخبرنا، فإنّا نرد على السّباع، وترد علينا‏.‏

وفيه أيضاً‏:‏ أنّ عمر بن الخطّاب نفسه كان مارّاً مع صاحب له فسقط عليهما شيء من ميزاب، فقال صاحبه‏:‏ يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس‏؟‏ فقال عمر‏:‏ يا صاحب الميزاب لا تخبرنا، ومضى‏.‏

فإن اشتبه عليه ماء طاهر وماء نجس تحرّى، فما أدّاه اجتهاده إلى طهارته توضّأ به‏.‏

القسم الثّالث‏:‏ شكّ لا يعرف أصله مثل التّعامل مع شخص أكثر ماله حرام دون تمييز لهذا من ذاك لاختلاط النّوعين معاً اختلاطاً يصعب تحديده، فمثل هذا الشّخص لا تحرم مبايعته ولا التّعامل معه لإمكان أن يكون المقابل حلالاً طيّباً، ولكن رغم هذا الاحتمال فقد نصّ الفقهاء على كراهة التّعامل معه خوفاً من الوقوع في الحرام‏.‏

كما نصّوا على أنّ ‏"‏ المشكوك في وجوبه لا يجب فعله ولا يستحبّ تركه بل يستحبّ فعله احتياطاً ‏"‏‏.‏

أقسام الشّكّ بحسب الإجماع على اعتباره وإلغائه

7 - ذكر القرافيّ أنّ الشّكّ بهذا الاعتبار ينقسم أيضاً إلى ثلاثة أقسام‏:‏

القسم الأوّل‏:‏ مجمع على اعتباره كالشّكّ في المذكّاة والميتة، فالحكم تحريمهما معاً‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ مجمع على إلغائه، كمن شكّ هل طلّق أم لا‏؟‏ فلا شيء عليه، وشكّه يعتبر لغواً‏.‏ القسم الثّالث‏:‏ اختلف العلماء في جعله سبباً، كمن شك هل أحدث أم لا‏؟‏ فقد اعتبره مالك دون الشّافعيّ‏.‏

ومن شكّ هل طلّق ثلاثاً أم اثنتين‏؟‏ ألزمه مالك الطّلقة المشكوك فيها خلافاً للشّافعيّ وسيأتي تفصيله‏.‏

الشّكّ لا يزيل اليقين، أو اليقين لا يزول بالشّكّ أو لا شكّ مع اليقين ‏"‏‏:‏

8 - هذه القاعدة - على اختلاف تراكيبها - من أمّهات القواعد الّتي عليها مدار الأحكام الفقهيّة وقد قيل‏:‏ إنّها تدخل في جميع أبواب الفقه، والمسائل المخرّجة عنها من عبادات ومعاملات تبلغ ثلاثة أرباع علم الفقه‏.‏

الشّكّ في الميراث

9 - الميراث استحقاق وكلّ استحقاق لا يثبت إلاّ بثبوت أسبابه وتوفّر شروطه وانتفاء موانعه، وهذه لا تثبت إلاّ بيقين، فلا يتصوّر مثلاً ثبوت الاستحقاق بالشّكّ في طريقه وبالتّالي لا يتصوّر ثبوت الميراث بالشّكّ‏.‏

الشّكّ في الأركان

10 - أركان الشّيء هي أجزاء ماهيّته الّتي يتكوّن منها، وهي الّتي تتوقّف صحّتها على توفّر شروطها‏.‏

وأركان أيّ عبادة من العبادات يراد بها فرائضها الّتي لا بدّ منها إذ لا فرق بين الرّكن والفرض إلاّ في الحجّ حيث تتميّز الأركان فيه على الواجبات والفروض بعدم جبرها بالدّم‏.‏

فمن شكّ في ركن من أركان العبادة أو في فرض من فرائضها، هل أتى به أم لا‏؟‏ فإنّه يبني على اليقين المحقّق عنده، ويأتي بما شكّ فيه، ويسجد بعد السّلام سجدتين لاحتمال أن يكون قد فعل ما شكّ فيه، فيكون ما أتى به بعد ذلك محض زيادة، وقال ابن لبابة‏:‏ يسجد قبل السّلام، وفي غلبة الظّنّ هنا قولان داخل المذهب المالكيّ‏:‏ منهم من اعتبرها كالشّكّ ومنهم من اعتبرها كاليقين‏.‏

وفيما تقدّم يقول الشّيخ ابن عاشر - صاحب المرشد المعين -‏:‏

من شكّ في ركن بنى على اليقين *** وليسجدوا البعديّ لكن قد يبين‏.‏

قال الشّيخ محمّد بن أحمد ميّارة‏:‏ ويقيّد كلام صاحب هذا النّظم بغير الموسوس أو كالمستنكح لأنّ هذا لا يعتدّ بما شكّ فيه، وشكّه كالعدم ويسجد بعد السّلام، فإذا شكّ هل صلّى ثلاثاً أو أربعاً بنى على الأربع وسجد بعد السّلام‏.‏

وإجمالاً فإنّ الشّكّ على قسمين‏:‏

مستنكح‏:‏ أي يعتري صاحبه كثيراً وهو كالعدم لكنّه يسجد له بعد السّلام، وغير مستنكح‏:‏ وهو الّذي يأتي بعد مدّة وحكمه وجوب البناء على اليقين، وأنّ السّهو أيضاً على قسمين‏:‏ مستنكح وغير مستنكح‏.‏

راجع مصطلح‏:‏ ‏(‏سهو‏)‏ من الموسوعة الفقهيّة‏.‏

وإنّ من شكّ في جلوسه هل كان في الشّفع أو في الوتر‏؟‏ فإنّ المنصوص لمالك أنّه يسلّم ويسجد لسهوه، ثمّ يوتر بواحدة لاحتمال أن يكون أضاف ركعة الوتر إلى ركعتي الشّفع من غير سلام فيصير قد صلّى الشّفع ثلاثاً، ومن هنا طولب بالسّجود بعد السّلام، وأنّ هذه المسألة – أي مسألة الشّكّ في الرّكن – تتّفق في الحكم مع مسألة التّحقّق من الإخلال بركن ففي الأولى يلغى الشّكّ ويبنى على اليقين مع السّجود بعد السّلام، وفي الثّانية يجبر الرّكن ويقع السّجود بعد السّلام‏.‏

وإنّ الّذي يجمع هذا كلّه هو قولهم‏:‏ الشّكّ في النّقصان كتحقّقه‏.‏ ولذلك قال الونشريسيّ في شرح هذه القاعدة‏:‏ ومن ثمّ لو شكّ أصلّى ثلاثاً أم أربعاً‏؟‏ أتى برابعة أو شكّ في بعض أشواط الطّواف أو السّعي أو شكّ هل أتى بالثّالثة أم لا‏؟‏ بنى في جميع ذلك على اليقين‏.‏

وتتمّم هذه القاعدة قاعدة أخرى نصّها‏:‏ الشّكّ في الزّيادة كتحقّقها‏.‏ كالشّكّ في حصول التّفاضل في عقود الرّبا، والشّكّ في عدد الطّلاق ونحو ذلك‏.‏

الشّكّ في السّبب

11 - السّبب لغةً‏:‏ هو الحبل أو الطّريق ثمّ استعير من الحبل ليدلّ على كلّ ما يتوصّل به إلى شيء، كقوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ‏}‏ أي العلائق الّتي ظنّوا أنّها ستوصّلهم إلى النّعيم، ومنه الحديث الشّريف‏:‏ » وإن كان رزقه في الأسباب « أي في طرق السّماء وأبوابها‏.‏ وهو - في اصطلاح الفقهاء والأصوليّين - الأمر الّذي جعله الشّرع أمارةً لوجود الحكم وجعل انتفاءه أمارةً على عدم الحكم‏.‏

وبناءً على هذا فإنّ السّبب لا ينعقد إلاّ بجعل المشرّع له كذلك‏.‏

وحتّى يكون السّبب واضح التّأثير - بجعل اللّه - ينبغي أن يكون متيقّناً إذ لا تأثير ولا أثر لسبب مشكوك فيه، وذلك كالشّكّ في أسباب الميراث بأنواعها‏.‏ فإنّه مانع من حصول الميراث بالفعل إذ لا ميراث مع الشّكّ في سببه كما هو مقرّر‏.‏ شأنه في ذلك شأن الشّكّ في دخول وقت الظّهر أو وقت العصر ونحوهما من أسباب العبادات‏.‏

وقد خصّص القرافيّ فرقاً هامّاً ميّز فيه بين قاعدة الشّكّ في السّبب وبين قاعدة السّبب في الشّكّ، أشار في بدايته إلى أنّ هذا الموضوع قد أشكل أمره على جميع الفضلاء، وانبنى على عدم تحريره إشكال آخر في مواضع ومسائل كثيرة حتّى خرق بعضهم الإجماع فيها‏.‏

والقول الفصل في هذا الموضوع حسب رأي القرافيّ‏:‏ أنّ الشّارع شرع الأحكام وشرع لها أسباباً وجعل من جملة ما شرعه من الأسباب الشّكّ، فشرعه - حيث شاء - في صور عديدة‏:‏ فإذا شكّ في الشّاة والميتة حرمتا معاً، وسبب التّحريم هو الشّكّ، وإذا شكّ في الأجنبيّة وأخته من الرّضاعة حرمتا معاً، وسبب التّحريم هو الشّكّ، وإذا شكّ في عين الصّلاة المنسيّة وجب عليه خمس صلوات، وسبب وجوب الخمس هو الشّكّ، وإذا شكّ هل تطهّر أم لا‏؟‏ وجب الوضوء، وسبب وجوبه هو الشّكّ، وكذلك بقيّة النّظائر‏.‏

فالشّكّ في السّبب غير السّبب في الشّكّ‏:‏ فالأوّل يمنع التّقرّب ولا يتقرّر معه حكم، والثّاني لا يمنع التّقرّب وتتقرّر معه الأحكام كما هو الحال في النّظائر السّابقة‏.‏

ولا ندّعي أنّ صاحب الشّرع نصب الشّكّ سبباً في جميع صوره بل في بعض الصّور بحسب ما يدلّ عليه الإجماع أو النّصّ، وقد يلغي صاحب الشّرع الشّكّ فلا يجعل فيه شيئاً‏:‏ كمن شكّ هل طلّق أم لا‏.‏ فلا شيء عليه، والشّكّ لغو، ومن شكّ في صلاته هل سها أم لا‏؟‏ فلا شيء عليه والشّكّ لغو‏.‏ فهذه صور من الشّكّ أجمع النّاس على عدم اعتباره فيها، كما أجمعوا على اعتباره فيما تقدّم ذكره من تلك الصّور‏.‏

وقسم ثالث اختلف العلماء في نصبه سبباً‏:‏ كمن شكّ هل أحدث أم لا‏؟‏ فقد اعتبره مالك خلافاً للشّافعيّ، ومن شكّ هل طلّق ثلاثاً أم اثنتين‏؟‏ ألزمه مالك الطّلقة المشكوك فيها خلافاً للشّافعيّ، ومن حلف يميناً وشكّ ما هي‏؟‏ ألزمه مالك جميع الأيمان‏.‏

الشّكّ في الشّرط

12 - الشَّرَط - بفتحتين -‏:‏ العلامة والجمع أشراط مثل سبب وأسباب، ومنه أشراط السّاعة، أي علاماتها ودلائلها‏.‏

والشّرْط - بسكون الرّاء - يجمع على شروط‏.‏ تقول‏:‏ شرط عليه شرطاً واشترطت عليه، بمعنىً واحد عند أهل اللّغة‏.‏

أمّا الشّرط عند الفقهاء والأصوليّين‏:‏ فهو ما جعله الشّارع مكمّلاً لأمر شرعيّ لا يتحقّق إلاّ بوجوده‏:‏ كالطّهارة، جعلها اللّه تعالى مكمّلةً للصّلاة فيما يقصد منها من تعظيمه سبحانه وتعالى إذ الوقوف بين يديه تعالى مع الطّهارة الشّاملة للبدن والثّياب والمكان أكمل في معنى الاحترام والتّعظيم، وبهذا الوضع لا تتحقّق الصّلاة الشّرعيّة إلاّ بها، فالشّرط بهذا الاعتبار يتوقّف عليه وجود الحكم وهو خارج عن المشروط، ويلزم من عدمه عدم الحكم، ولا يلزم من وجوده وجود الحكم ولا عدمه‏.‏

والشّكّ في الشّرط مانع من ترتّب المشروط، وهو كذلك يوجب الشّكّ في المشروط‏.‏ وبناءً على ذلك وجب الوضوء على من تيقّن الطّهارة وشكّ في الحدث على المشهور عند المالكيّة، وامتنع القصاص من الأب في قتل ابنه‏.‏ وامتنع الإرث بالشّكّ في موت المورّث أو حياة الوارث، وبالشّكّ في انتفاء المانع من الميراث‏.‏

الشّكّ في المانع

13 - المانع لغةً‏:‏ الحائل‏.‏

أمّا المانع في الاصطلاح فقد عرّف بقولهم‏:‏ هو ما يلزم من أجل وجوده العدم - أي عدم الحكم- ولا يلزم من أجل عدمه وجود ولا عدم‏.‏ كقتل الوارث لمورّثه عمداً وعدواناً فإنّه يعدّ مانعاً من الميراث، وإن تحقّق سببه وهو القرابة أو الزّوجيّة أو غيرهما‏.‏

فإذا وقع الشّكّ في المانع فهل يؤثّر ذلك في الحكم‏؟‏ انعقد الإجماع على أنّ ‏"‏ الشّكّ في المانع لا أثر له ‏"‏ أي إنّ الشّكّ ملغىً بالإجماع‏.‏ ومن ثمّ ألغي الشّكّ الحاصل في ارتداد زيد قبل وفاته أم لا‏؟‏ وصحّ الإرث منه استصحاباً للأصل الّذي هو الإسلام‏.‏ كما ألغي الشّكّ في الطّلاق، بمعنى شكّ الزّوج هل حصل منه الطّلاق أم لا‏؟‏ وقد سبق أنّ الشّكّ هنا لا تأثير له وأنّ الواجب استصحاب العصمة الثّابتة قبل الشّكّ، لأنّ الشّكّ هنا كان من قبيل الشّكّ في حصول المانع وهو ملغىً وسيأتي التّفريق بين هذه المسألة وبين مسألة الشّكّ في الحدث عند تناول الشّكّ في الطّهارة‏.‏

وعلى هذا النّحو أيضاً ألغي الشّكّ في العتاق والظّهار وحرمة الرّضاع وما إليها‏.‏

قال الخطّابيّ - في خصوص الرّضاع -‏:‏ هو من الموانع الّتي يمنع وجودها وجود الحكم ابتداءً وانتهاءً، فهو يمنع ابتداء النّكاح ويقطع استمراره - إذا طرأ عليه - فإذا وقع الشّكّ في حصوله لم يؤثّر بناءً على قاعدة ‏"‏ الشّكّ ملغىً ‏"‏ وقد يقال‏:‏ إنّ الأحوط التّنزّه عن ذلك وقد ذكروا أنّه لا ينبغي للشّخص أن يقدم إلاّ على فرج مقطوع بحلّيّته‏.‏

الشّكّ في الطّهارة

14 - أجمع الفقهاء على أنّ من تيقّن الحدث وشكّ في الطّهارة يجبّ عليه الوضوء، وإعادة الصّلاة إن صلّى لأنّ الذّمّة مشغولة فلا تبرأ إلاّ بيقين، فإن تيقّن الطّهارة وشكّ في الحدث فلا وضوء عليه عند جمهور الفقهاء لأنّ الوضوء لا ينقض بالشّكّ عندهم لحديث عبد اللّه بن زيد قال‏:‏ » شكي إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم الرّجل يخيّل إليه أنّه يجد الشّيء في الصّلاة‏؟‏ فقال – صلى الله عليه وسلم -‏:‏ لا ينصرف حتّى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً «‏.‏

وقال المالكيّة - في المشهور من المذهب -‏:‏ من تيقّن الطّهارة ثمّ شكّ في الحدث فعليه الوضوء وجوباً - وقيل‏:‏ استحباباً - لما تقرّر من أنّ الشّكّ في أحد المتقابلين يوجب الشّكّ في الآخر، إلاّ أن يكون مستنكحاً، وعلى هذا يحمل الحديث‏.‏

وذكر الفقهاء في هذا الباب أيضاً أنّ من تيقّن الطّهارة والحدث معاً وشكّ في السّابق منهما فعليه أن يعمل بضدّ ما قبلهما‏:‏ فإن كان قبل ذلك محدثاً فهو الآن متطهّر، لأنّه تيقّن الطّهارة بعد ذلك الحدث وشكّ في انتقاضها، حيث لا يدري هل الحدث الثّاني قبلها أو بعدها‏؟‏ وإن كان متطهّراً وكان يعتاد التّجديد فهو الآن محدث لأنّه متيقّن حدثاً بعد تلك الطّهارة وشكّ في زواله حيث لا يدري هل الطّهارة الثّانية متأخّرة عنه أم لا‏؟‏‏.‏

قال ابن عبد البرّ‏:‏ مذهب الثّوريّ وأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعيّ والشّافعيّ ومن سلك سبيله البناء على الأصل حدثاً كان أو طهارةً، وهو قول أحمد بن حنبل، وإسحاق وأبي ثور والطّبريّ، وقال مالك‏:‏ إن عرض له ذلك كثيراً فهو على وضوئه، وأجمع العلماء أنّ من أيقن بالحدث وشكّ في الوضوء فإنّ شكّه لا يفيد فائدةً وأنّ عليه الوضوء فرضاً وهذا يدلّ على أنّ الشّكّ عندهم ملغىً، وأنّ العمل عندهم على اليقين، وهذا أصل كبير في الفقه فتدبّره وقف عليه‏.‏ ومن هذا القبيل ما جاء عن الفقهاء من أنّ المرأة إذا رأت دم الحيض ولم تدر وقت حصوله فإنّ حكمها حكم من رأى منيّاً في ثوبه ولم يعلم وقت حصوله، أي عليها أن تغتسل وتعيد الصّلاة من آخر نومة، وهذا أقلّ الأقوال تعقيداً وأكثرها وضوحاً‏.‏

وضابطه ما قاله ابن قدامة من أنّ حكم الحيض المشكوك فيه كحكم الحيض المتيقّن في ترك العبادات‏.‏

والمراد بالشّكّ في هذا الموضع - مطلق التّردّد - كما سبق في مفهومه عند الفقهاء سواء أكان على السّواء أم كان أحد طرفيه أرجح‏.‏

الشّكّ في الصّلاة

أ - الشّكّ في القبلة‏:‏

15 - من شكّ في جهة الكعبة فعليه أن يسأل عنها العالمين بها من أهل المكان إن وجدوا وإلاّ فعليه بالتّحرّي والاجتهاد لما رواه عامر بن ربيعة - رضي الله تعالى عنه - قال‏:‏ » كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلّى كلّ رجل منّا على حياله فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فنزل ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ‏}‏ «‏.‏ وقبلة المتحرّي - كما ورد عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه - هي جهة قصده‏.‏

والصّلاة الواحدة لجهة القصد هذه تجزئ المصلّي وتسقط عنه الطّلب لعجزه، ويرى ابن عبد الحكم أنّ الأفضل له أن يصلّي لكلّ جهة من الجهات الأربع أخذاً بالأحوط، وذلك إذا كان شكّه دائراً بينها أمّا إذا انحصر شكّه في ثلاث جهات فقط مثلاً فإنّ الرّابعة لا يصلّي إليها، وقد اختار اللّخميّ ما فضّله ابن عبد الحكم، ولكنّ المعتمد الأوّل عند جمهور المالكيّة وغيرهم‏.‏

ب - الشّكّ في دخول الوقت‏:‏

16 - من شكّ في دخول الوقت لم يصلّ حتّى يغلب على ظنّه دخوله لأنّ الأصل عدم دخوله، فإن صلّى مع الشّكّ فعليه الإعادة وإن وافق الوقت، لعدم صحّة صلاته مثلما هو الأمر فيمن اشتبهت عليه القبلة فصلّى من غير اجتهاد‏.‏

ج - الشّكّ في الصّلاة الفائتة‏:‏

17 - من فاتته صلاة من يوم ما، ولا يدري أيّ صلاة هي فعليه أن يعيد صلاة يوم وليلة حتّى يخرج من عهدة الواجب بيقين لا بشكّ‏.‏

د - الشّكّ في ركعة من ركعات الصّلاة‏:‏

18 - اختلف الفقهاء فيمن شكّ في صلاته فلم يدر أواحدةً صلّى أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً‏؟‏ وقال مالك والشّافعيّ‏:‏ يبني على اليقين ولا يجزئه التّحرّي، وروي مثل ذلك عن الثّوريّ والطّبريّ، واحتجّوا لذلك‏:‏

أوّلاً‏:‏ بحديث أبي سعيد الخدريّ‏:‏ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » إذا شكّ أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلّى أثلاثاً أم أربعاً‏؟‏ فليطرح الشّكّ وليبن على ما استيقن ثمّ يسجد سجدتين قبل أن يسلّم‏.‏ فإن كان صلّى خمساً، شفعن له صلاته، وإن كان صلّى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشّيطان «‏.‏

وثانياً‏:‏ بالقاعدتين الفقهيّتين اللّتين في معنى الأحاديث المشار إليها وغيرها ممّا يوجب البناء على اليقين‏.‏ وهما‏:‏

القاعدة الأولى‏:‏ ‏"‏ اليقين لا يزيله الشّكّ ‏"‏‏.‏

والثّانية‏:‏ ‏"‏ والشّكّ في النّقصان كتحقّقه ‏"‏‏.‏

وقال أبو حنيفة إذا كان الشّكّ يحدث له لأوّل مرّة بطلت صلاته ولم يتحرّ وعليه أن يستقبل صلاةً جديدةً‏.‏ وإن كان الشّكّ يعتاده ويتكرّر له يبني على غالب ظنّه بحكم التّحرّي ويقعد ويتشهّد بعد كلّ ركعة يظنّها آخر صلاته لئلاّ يصير تاركاً فرض القعدة، فإن لم يقع له ظنّ بنى على الأقلّ، وقال الثّوريّ - في رواية عنه -‏:‏ يتحرّى سواء كان ذلك أوّل مرّة أو لم يكن‏.‏

وقال الأوزاعيّ‏:‏ يتحرّى، قال‏:‏ وإن نام في صلاته فلم يدر كم صلّى‏؟‏ استأنف‏.‏

وقال اللّيث بن سعد‏:‏ إن كان هذا شيئاً يلزمه ولا يزال يشكّ أجزأه سجدتا السّهو عن التّحرّي، وعن البناء على اليقين، وإن لم يكن شيئاً يلزمه استأنف تلك الرّكعة بسجدتيها‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ الشّكّ على وجهين‏:‏ اليقين والتّحرّي، فمن رجع إلى اليقين ألغى الشّكّ وسجد سجدتي السّهو قبل السّلام، وإذا رجع إلى التّحرّي سجد سجدتي السّهو بعد السّلام‏.‏ ودليله حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » إنّ أحدكم إذا قام يصلّي جاء الشّيطان فلبّس عليه حتّى لا يدري كم صلّى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس «‏.‏

وحجّة من قال بالتّحرّي في هذا الموضوع حديث ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ » إذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحرّ الّذي يرى أنّه الصّواب « ثمّ - يعني - يسجد سجدتين‏.‏

الشّكّ في الزّكاة

أ - الشّكّ في تأديتها‏:‏

19 - لو شكّ رجل في الزّكاة فلم يدر أزكّى أم لا‏؟‏ فالواجب عليه إخراجها لأنّ العمر كلّه وقت لأدائها، ومن هنا يظهر الفرق بين صاحب هذه الحالة وبين من شكّ في الصّلاة بعد خروج الوقت أصلّى أم لا‏؟‏ حيث ذكروا - كما تقدّم - إعفاءه من الإعادة لأنّها مؤقّتة والزّكاة بخلافها‏.‏

ب - الشّكّ في تأدية كلّ الزّكاة أو بعضها‏:‏

20 - ذكر ابن نجيم أنّ حادثةً وقعت مفادها‏:‏ أنّ رجلاً شكّ هل أدّى جميع ما عليه من الزّكاة أو لا‏؟‏ حيث كان يؤدّي ما عليه متفرّقاً من غير ضبط، فتمّ إفتاؤه بلزوم الإعادة حيث لم يغلب على ظنّه دفع قدر معيّن، وهذا الحكم هو مقتضى القواعد لأنّ الزّكاة ثابتة في ذمّته بيقين فلا يخرج عن العهدة بالشّكّ‏.‏

ج - الشّكّ في مصرف الزّكاة‏:‏

21 - إذا دفع المزكّي الزّكاة وهو شاكّ في أنّ من دفعت إليه مصرف من مصارفها ولم يتحرّ، أو تحرّى ولم يظهر له أنّه مصرف، فهو على الفساد إلاّ إذا تبيّن له أنّه مصرف‏.‏ بخلاف ما إذا دفعت باجتهاد وتحرّ لغير مستحقّ في الواقع كالغنيّ والكافر‏.‏

ففيه تفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏زكاة ف 188 - 189 ج 23 /233‏)‏‏.‏

الشّكّ في الصّيام

أ - الشّكّ في دخول رمضان‏:‏

22 - إذا شكّ المسلم في دخول رمضان في اليوم الموالي ليومه ولم يكن له أصل يبني عليه مثل أن يكون ليلة الثّلاثين من شعبان ولم يحل دون رؤية الهلال سحب ولا غيوم ومع ذلك عزم أن يصوم غداً باعتباره أوّل يوم من رمضان لم تصحّ نيّته ولا يجزئه صيام ذلك اليوم لأنّ النّيّة قصد تابع للعلم الحاصل بطرقه الشّرعيّة وحيث انتفى ذلك فلا يصحّ قصده وهو رأي حمّاد وربيعة ومالك وابن أبي ليلى وابن المنذر لأنّ الصّائم لم يجزم النّيّة بصومه من رمضان فلم يصحّ كما لو لم يعلم إلاّ بعد خروجه‏.‏

وكذلك لو بنى على قول المنجّمين وأهل المعرفة بالحساب لم يصحّ صومه وإن كثرت إصابتهم لأنّه ليس بدليل شرعيّ يجوز البناء عليه فكان وجوده كعدمه‏.‏

وقال الثّوريّ والأوزاعيّ‏:‏ يصحّ إذا نواه من اللّيل - وكان الأمر كما قصد - لأنّه نوى الصّيام من اللّيل فصحّ كاليوم الثّاني‏.‏

وروي عن الشّافعيّ ما يوافق المذهبين‏.‏

ب الشّكّ في دخول شوّال‏:‏

23 - تصحّ النّيّة ليلة الثّلاثين من رمضان رغم أنّ هناك احتمالاً في أن يكون من شوّال، لأنّ الأصل بقاء رمضان وقد أمرنا بصومه بالقرآن والسّنّة لكن إذا قال المكلّف‏:‏ إن كان غداً من رمضان فأنا صائم وإن كان من شوّال فأنا مفطر فلا يصحّ صومه على رأي بعضهم لأنّه لم يجزم بنيّة الصّيام والنّيّة قصد جازم، وقيل‏:‏ تصحّ نيّته لأنّ هذا شرط واقع والأصل بقاء رمضان‏.‏

ج - الشّكّ في طلوع الفجر‏:‏

24 - إذا شكّ الصّائم في طلوع الفجر فالمستحبّ ألاّ يأكل لاحتمال أن يكون الفجر قد طلع، فيكون الأكل إفساداً للصّوم ولذلك كان مدعوّاً للأخذ بالأحوط لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » دع ما يريبك إلى ما لا يريبك «‏.‏

ولو أكل وهو شاكّ، فلا قضاء عليه عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، لأنّ فساد الصّوم محلّ شكّ والأصل استصحاب اللّيل حتّى يثبت النّهار وهذا لا يثبت بالشّكّ‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ من أكل شاكّاً في الفجر فعليه القضاء مع الحرمة رغم أنّ الأصل بقاء اللّيل، هذا بالنّسبة لصوم الفرض، أمّا صوم النّفل فقد سوّى بعضهم بينه وبين الفرض في القضاء والحرمة وفرّق بينهما جماعة في الحرمة حيث قالوا بالكراهية‏.‏

د - الشّكّ في غروب الشّمس‏:‏

25 - لو شكّ الصّائم في غروب الشّمس لا يصحّ له أن يفطر مع الشّكّ لأنّ الأصل بقاء النّهار، ولو أفطر على شكّه دون أن يتبيّن الحال بعد ذلك فعليه القضاء اتّفاقاً‏.‏ والحرمة متّفق عليها كذلك‏.‏

وعدم الكفّارة في الأكل مع الشّكّ في الفجر متّفق عليه، أمّا الأكل مع الشّكّ في الغروب فمختلف في وجوب الكفّارة فيه، والمشهور عدمها، فإن أفطر معتقداً بقاء اللّيل أو حصول الغروب ثمّ طرأ الشّكّ فعليه القضاء بلا حرمة‏.‏

الشّكّ في الحجّ

أ - الشّكّ في نوع الإحرام‏:‏

26 - إذا شكّ الحاجّ هل أحرم بالإفراد أو بالتّمتّع أو بالقران وكلّ ذلك قبل الطّواف فعند أبي حنيفة ومالك يصرفه إلى القران لجمعه بين النّسكين وهو مذهب الشّافعيّ في الجديد‏.‏

وعند الحنابلة له صرفه إلى أيّ نوع من أنواع الإحرام المذكورة، والمنصوص عن أحمد جعله عمرةً على سبيل الاستحباب، وقال الشّافعيّ في القديم‏:‏ يتحرّى فيبني على غالب ظنّه لأنّه من شرائط العبادة فيدخله التّحرّي كالقبلة‏.‏

وسبب الخلاف مواقف الأئمّة من فسخ الحجّ إلى العمرة، فهو جائز عند الحنابلة، وغير جائز عند غيرهم‏.‏

وأمّا إن شكّ بعد الطّواف فإنّ صرفه لا يجوز إلاّ إلى العمرة لأنّ إدخال الحجّ على العمرة بعد الطّواف مع ركعتيه غير جائز‏.‏

ب - الشّكّ في دخول ذي الحجّة‏:‏

27 - لو شكّ النّاس في هلال ذي الحجّة فوقفوا بعرفة إن أكملوا عدّة ذي القعدة ثلاثين يوماً ثمّ شهد الشّهود أنّهم رأوا الهلال ليلة كذا، وتبيّن أن يوم وقوفهم كان يوم النّحر فوقوفهم صحيح وحجّتهم تامّة عند الأئمّة الأربعة‏.‏

وذلك لما ورد أنّه - عليه الصلاة والسلام - قال‏:‏ » الصّوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحّون «‏.‏

وأضاف الحنفيّة أنّ الحكم المذكور المتمثّل في صحّة الوقوف كان استحساناً لا قياساً‏.‏ أمّا إذا تبيّن أنّهم وقفوا في اليوم الثّامن فلا يجزيهم وقوفهم عند أكثر أهل العلم، وهو قول مالك واللّيث والأوزاعيّ وأبي حنيفة وصاحبيه‏.‏

والفرق بين الصّورتين‏:‏ أنّ الّذين وقفوا يوم النّحر فعلوا ما تعبّدهم اللّه به على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم من إكمال العدّة دون اجتهاد بخلاف الّذين وقفوا في الثّامن فإنّ ذلك باجتهادهم وقبولهم شهادة من لا يوثق به‏.‏

الشّكّ في الطّواف

28 - إذا شكّ الحاجّ في عدد أشواط الطّواف بنى على اليقين، قال ابن المنذر‏:‏ وعلى هذا أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم لأنّها عبادة متى شكّ فيها وهو فيها بنى على اليقين كالصّلاة‏.‏ ولأنّ الشّكّ في النّقصان كتحقّقه‏.‏ وإن أخبره ثقة بعد طوافه رجع إليه إذا كان عدلاً، وإن شكّ في ذلك بعد فراغه من الطّواف لم يلتفت إليه كما لو شكّ في عدد الرّكعات بعد فراغه من الصّلاة‏.‏

وفي الموطّأ‏:‏ من شكّ في طوافه بعد ما ركع ركعتي الطّواف فليعد ليتمّ طوافه على اليقين ثمّ ليعد الرّكعتين لأنّه لا صلاة لطواف إلاّ بعد إكمال السّبع‏.‏

وإذا شكّ في الطّهارة وهو في الطّواف لم يصحّ طوافه ذلك لأنّه شكّ في شرط العبادة قبل الفراغ منها فأشبه ما لو شكّ في الطّهارة أثناء الصّلاة‏.‏

الشّكّ في الذّبائح

29 - من التبست عليه المذكّاة بالميتة حرمتا معاً لحصول سبب التّحريم الّذي هو الشّكّ‏.‏

وكذلك لو رمى المسلم طريدةً بآلة صيد فسقطت في ماء وماتت والتبس عليه أمرها، فلا تؤكل للشّكّ في المبيح‏.‏

ولو وجدت شاة مذبوحة ببلد فيه من تحلّ ذبيحته ومن لا تحلّ ذبيحته ووقع الشّكّ في ذابحها لا تحلّ إلاّ إذا غلب على أهل البلد من تحلّ ذبيحتهم‏.‏

الشّكّ في الطّلاق

30 - شكّ الزّوج في الطّلاق لا يخلو من ثلاث حالات‏:‏

الحالة الأولى‏:‏ أن يكون الشّكّ في وقوع أصل التّطليق، أي شكّ هل طلّقها أم لا‏؟‏ فلا يقع الطّلاق في هذه الحالة بإجماع الأمّة، واستدلّوا لذلك بأنّ النّكاح ثابت بيقين فلا يزول بالشّكّ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏‏.‏

الحالة الثّانية‏:‏ أن يقع الشّكّ في عدد الطّلاق - مع تحقّق وقوعه - هل طلّقها واحدةً أو اثنتين أو ثلاثاً‏؟‏ لم تحلّ له – عند المالكيّة، والخرقيّ من الحنابلة، وبعض الشّافعيّة – إلاّ بعد زوج آخر لاحتمال كونه ثلاثاً‏.‏ عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ » دع ما يريبك إلى ما لا يريبك « ويحكم بالأقلّ عند أبي حنيفة والشّافعيّ وأحمد، فإذا راجعها حلّت له على رأي هؤلاء‏.‏

الحالة الثّالثة‏:‏ أن يقع الشّكّ في صفة الطّلاق كأن يتردّد مثلاً في كونها بائنةً أو رجعيّةً، وفي هذه الحالة يحكم بالرّجعيّة لأنّها أضعف الطّلاقين فكان متيقّناً بها‏.‏

وذكر الكاسانيّ - في هذا المعنى - أنّ الرّجل لو قال لزوجته‏:‏ أنت طالق أقبح طلاق فهو رجعيّ عند أبي يوسف لأنّ قوله‏:‏ أقبح طلاق يحتمل القبح الشّرعيّ وهو الكراهية الشّرعيّة، ويحتمل القبح الطّبيعيّ وهو الكراهية الطّبيعيّة، والمراد بها أن يطلّقها في وقت يكره الطّلاق فيه طبعاً، فلا تثبت البينونة فيه بالشّكّ، وهو بائن عند محمّد بن الحسن الشّيبانيّ لأنّ المطلّق قد وصف الطّلاق بالقبح، والطّلاق القبيح هو الطّلاق المنهيّ عنه، وهو البائن، ولذلك يقع بائناً‏.‏

الشّكّ في الرّضاع

31 - الاحتياط لنفي الرّيبة في الأبضاع متأكّد ويزداد الأمر تأكيداً إذا كان مختصّاً بالمحارم‏.‏

فلو شكّ في وجود الرّضاع أو في عدده بنى على اليقين، لأنّ الأصل عدم الرّضاع في الصّورة الأولى وعدم حصول المقدار المحرّم في الصّورة الثّانية إلاّ أنّها تكون من الشّبهات وتركها أولى لقوله - عليه الصلاة والسلام -‏:‏ » من اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه «‏.‏

ويرى القرافيّ أنّ الشّكّ فيما يقرب من هذا الموضوع وما ناظره قد يعدّ - في بعض الحالات - من الأسباب الّتي تدعو إلى الحكم بالتّحريم، من ذلك مثلاً ما لو شكّ الرّجل في أجنبيّة وأخته من الرّضاع حرمتا عليه معاً‏.‏

الشّكّ في اليمين

32 - إمّا أن يكون الشّكّ في أصل اليمين هل وقعت أو لا‏:‏ كشكّه في وقوع الحلف أو الحلف والحنث، فلا شيء على الشّاكّ في هذه الصّورة لأنّ الأصل براءة الذّمّة واليقين لا يزول بالشّكّ‏.‏ وإمّا أن يكون الشّكّ في المحلوف به كما إذا حلف وحنث، وشكّ هل حلف بطلاق أو عتق أو مشي إلى بيت اللّه تعالى، أو صدقة، فالواجب عليه في هذه الحالة وما ماثلها - عند المالكيّة- طلاق نسائه وعتق رقيقه والمشي إلى مكّة والتّصدّق بثلث ماله، وهو مأمور بذلك كلّه على وجه الإفتاء لا على وجه القضاء إذ الحالف - في رأيهم - يؤمر بإنفاذ الأيمان المشكوك فيها من غير قضاء‏.‏

ويرى الحنفيّة أنّ الشّاكّ في هذه الصّورة لا شيء عليه لأنّ الطّلاق والعتاق لا يقعان بالشّكّ، ولأنّ الكفّارة المترتّبة على الحلف باللّه لا تجب مع الشّكّ أيضاً إذ الأصل براءة الذّمّة‏.‏

ويضيفون إلى هذا الحلف إذا كان معلّقاً بشرط معلوم مع الشّكّ في القسم هل كان باللّه إذا تحقّق الشّرط وكان الحالف مسلماً، لأنّ الحلف بالطّلاق والعتاق غير مشروع فيجب حمل المسلم على الإتيان بالمشروع دون المحظور‏.‏

الشّكّ في النّذر

33 - لو شكّ النّاذر في نوع المنذور هل هو صلاة أو صيام أو صدقة أو عتق‏؟‏ تلزمه - عند جمهور الأئمّة - كفّارة يمين، لأنّ الشّكّ في المنذور كعدم تسميته‏.‏

الشّكّ في الوصيّة

34 - قال أبو حنيفة - في رجل أوصى بثلث ماله لرجل مسمّىً وأخبر أنّ ثلث ماله ألف مثلاً فإذا ثلث ماله أكثر ممّا ذكر -‏:‏ إنّ له الثّلث من جميع المال والتّسمية الّتي سمّى باطلة لأنّها خطأ، والخطأ لا ينقض الوصيّة ولا يكون رجوعاً فيها، ووافقه أبو يوسف في هذا الرّأي لأنّه لمّا أوصى بثلث ماله فقد أتى بوصيّة صحيحة حيث إنّ صحّتها لا تتوقّف على بيان المقدار الموصى به فتقع الوصيّة صحيحةً بدونه‏.‏

الشّكّ في الدّعوى، أو محلّها، أو محلّ الشّهادة

35 - أ - لو ادّعى شخص ديناً على آخر وشكّ المدين في قدره ينبغي لزوم إخراج القدر المتيقّن‏.‏

قال الحمويّ‏:‏ قيل‏:‏ الظّاهر أنّه ليس على سبيل الوجوب وإنّما هو على سبيل التّورّع والأخذ بالأحوط لأنّ الأصل براءة الذّمّة‏.‏

والمراد بالقدر المتيقّن - في هذه الحالة وما ماثلها - هو أكثر المبلغين‏:‏ فإذا كان الشّكّ دائراً بين عشرة وخمسة فالمتيقّن العشرة لدخول الخمسة فيها، وبهذا الاعتبار يكون الأكثر بالنّسبة إلى الأقلّ متيقّنًا دائماً رغم وقوع الشّكّ فيهما‏.‏

وذكر بعض الفقهاء‏:‏ أنّ المدين في هذه الحالة عليه أن يرضي خصمه ولا يحلف خشية أن يقع في الحرام، وإن أصرّ خصمه على إحلافه حلف إن كان أكبر ظنّه أنّه مبطل، أمّا إذا ترجّح عنده أنّ صاحب الدّعوى محقّ فإنّه لا يحلف‏.‏

ب - لو اشترى أحد حيواناً أو متاعاً ثمّ ادّعى أنّ به عيباً وأراد ردّه واختلف أهل الخبرة فقال بعضهم‏:‏ هو عيب وقال بعضهم‏:‏ ليس بعيب، فليس للمشتري الرّدّ لأنّ السّلامة هي الأصل المتيقّن فلا يثبت العيب بالشّكّ‏.‏

ج - لو ادّعت المرأة عدم وصول النّفقة والكسوة المقرّرتين لها في مدّة معيّنة فالقول لها، لأنّ الأصل المتيقّن بقاؤها في ذمّة الزّوج وأمّا دعواه فمشكوك فيها ولا يزول يقين بشكّ‏.‏

د - إذا كان إنسان يعلم أنّ عليّاً مدين لعمر بألف دينار مثلاً فإنّه يجوز له أن يشهد على عليّ، وإن خامره الشّكّ في وفائها أو في الإبراء عنها إذ لا عبرة بالشّكّ في جانب اليقين السّابق‏.‏

الشّكّ في الشّهادة

36 - لو قال الشّاهد‏:‏ أشهد بأنّ لفلان على فلان مائة دينار - مثلاً - فيما أعلم أو فيما أظنّ، أو حسب ظنّي لم تقبل شهادته للشّكّ الّذي داخلها من الزّيادة على لفظها، لأنّ ركن الشّهادة لفظ أشهد لا غير لتضمّنه معنى الشّهادة والقسم والإخبار للحال فكأنّه يقول‏:‏ أقسم باللّه لقد اطّلعت على ذلك وأنا أخبر به، ومن أجل ذلك تعيّن لفظ أشهد‏.‏

وقد بيّن سحنون - من المالكيّة - أنّ الشّهود لو شهدوا على امرأة بنكاح أو إقرار أو إبراء وسأل الخصم إدخالها في نساء للتّعرّف عليها من بينهنّ فقالوا‏:‏ شهدنا عليها عن معرفتها بعينها ونسبها ولا ندري هل نعرفها اليوم وقد تغيّرت حالها فلا نتكلّف ذلك، فلا بدّ والحالة هذه من التّعرّف عليها وإلاّ ردّت شهادتهم للشّكّ، أمّا لو قالوا‏:‏ نخاف أن تكون تغيّرت، فالواجب أن يقال لهم‏:‏ إن شككتم وقد أيقنتم أنّها ابنة فلان وليس لفلان هذا إلاّ بنت واحدة من حين شهدوا عليها إلى اليوم جازت الشّهادة - في هذه الحالة - وقبلت‏.‏

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ المالكيّة يرون أنّ الشّهادة مع الشّكّ تسلب صفة العدالة للشّاهد‏.‏ ومن أجل ذلك وغيره أكّد جميع الفقهاء أنّ المعاوضة لا تثبت بالشّكّ‏.‏ ووضعوا قيوداً لقبول شهادة السّماع للشّكّ الّذي يمكن أن يداخلها‏.‏

الشّكّ في النّسب

37 - أ - كلّ مطلّقة عليها العدّة فنسب ولدها يثبت من الزّوج إلاّ إذا علم يقيناً أنّه ليس منه، وهو أن تجيء به لأكثر من سنتين وإنّما كان كذلك لأنّ الطّلاق قبل الدّخول يوجب انقطاع النّكاح بجميع علائقه فكان النّكاح من كلّ وجه زائلاً بيقين وما زال بيقين لا يثبت إلاّ بيقين مثله فإذا جاءت بولد لأقلّ من ستّة أشهر من يوم الطّلاق فقد تيقّنّا أنّ العلوق وجد في حال الفراش وإنّه وطئها وهي حامل منه إذ لا يحتمل أن يكون بوطء بعد الطّلاق لأنّ المرأة لا تلد لأقلّ من ستّة أشهر فكان من وطء وجد على فراش الزّوج وكون العلوق في فراشه يوجب ثبوت النّسب منه‏.‏ فإذا جاءت بولد لستّة أشهر فصاعداً لم يستيقن بكونه مولوداً على الفراش لاحتمال أن يكون بوطء بعد الطّلاق والفراش كان زائلاً بيقين فلا يثبت مع الشّكّ‏.‏

ب - إذا ادّعى إنسان نسب لقيط ألحق به، لانفراده بالدّعوى، فإذا جاء آخر بعد ذلك وادّعاه فلم يزل نسبه عن الأوّل - رغم الشّكّ الّذي أحدثته دعوى الثّاني - لأنّه حكم له به فلا يزول بمجرّد الدّعوى، إلاّ إذا شهد القائفون بأنّه للثّاني فالقول قولهم لأنّ القيافة تعتبر بيّنةً في إلحاق النّسب‏.‏ وإذا ادّعى اللّقيط اثنان فألحقه القائفون بهما صحّ ذلك شرعاً وكان ابنهما يرثهما ميراث ابن ويرثانه ميراث أب واحد، وهذا الرّأي يروى عن عمر بن الخطّاب وعليّ بن أبي طالب وهو قول أبي ثور‏.‏

وقال أصحاب الرّأي يلحق بهما بمجرّد الدّعوى للآثار الكثيرة الواردة في ذلك‏.‏

الشّكّ ينتفع به المتّهم

38 - اتّفق الفقهاء على أنّه‏:‏ تدرأ الحدود بالشّبهات‏.‏ والأصل في ذلك عن عائشة أمّ المؤمنين - رضي الله تعالى عنها - قالت‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ » ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله فإنّ الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة «، وفي حديث آخر‏:‏ » ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً «‏.‏

وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص‏:‏ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حدّ فقد وجب «‏.‏

وهذه القاعدة توجب أوّلاً‏:‏ اعتماد اليقين - ما أمكن - في نسبة الجريمة إلى المتّهم‏.‏

وثانياً‏:‏ أنّ الشّكّ - مهما كانت نسبته ومهما كان محلّه ومهما كان طريقه - ينتفع به المتّهم فيدرأ عنه الحدّ، يقول الشّاطبيّ‏:‏ فإنّ الدّليل يقوم - هناك - مفيداً للظّنّ في إقامة الحدّ، ومع ذلك فإذا عارضته شبهة وإن ضعفت - غلب - حكمها ودخل صاحبها في مرتبة العفو‏.‏

وثالثاً‏:‏ الخطأ في العفو أفضل شرعاً من الخطأ في العقوبة حيث إنّ تبرئة المجرم فعلاً أحبّ إلى اللّه ورسوله من معاقبة البريء‏.‏

وهذا المبدأ نجد تطبيقاته مبثوثةً في أقضية الصّحابة - رضي الله عنهم - وأقضية التّابعين وفتاوى المجتهدين، من ذلك ما حكم به عمر بن الخطّاب - رضي الله تعالى عنه - في قضيّة المغيرة بن شعبة والي البصرة الّذي اتّهم بالزّنا مع امرأة أرملة كان يحسن إليها، فاستدعى الخليفة الوالي وشهود التّهمة فشهد ثلاثة برؤية تنفيذ الجريمة، ولكنّ الشّاهد الرّابع الّذي يكتمل به النّصاب قال‏:‏ لم أر ما قال هؤلاء بل رأيت ريبةً وسمعت نفساً عالياً، ولا أعرف ما وراء ذلك، فأسقط عمر التّهمة عن المغيرة وحفظ له براءته وطهارته، وعاقب الشّهود الثّلاثة عقوبة القذف‏.‏

وعمر نفسه لم يقم حدّ السّرقة عام الرّمادة لأنّه جعل من المجاعة العامّة قرينةً على الاضطرار، والاضطرار شبهة في السّرقة تمنع الحدّ عن السّارق بل تبيح له السّرقة في حدود الضّرورة‏.‏ وقد ذكر الأئمّة أنّ من أخذ من مال أبيه خفيةً ظنّاً منه أنّه يباح له ذلك لا حدّ عليه، وأنّ من جامع المطلّقة ثلاثاً في العدّة ظنّاً منه أنّ ذلك يباح له لا حدّ عليه أيضاً‏.‏

ونقل عن أبي حنيفة القول بأنّ ما يعرف بشبهة العقد يدرأ الحدّ بها، فلا حدّ - في رأيه - على من وطئ محرّمةً بعد العقد عليها وإن كان عالماً بالحرمة‏:‏ كوطء امرأة تزوّجها بلا شهود مثلاً، وفي رأي الصّاحبين عليه الحدّ - إذا كان عالماً بالحرمة - وهو المعتمد‏.‏

الشّكّ لا تناط به الرّخص‏:‏ أو الرّخص لا تناط بالشّكّ

39 - هو لفظ قاعدة فقهيّة ذكرها السّيوطيّ نقلاً عن تقيّ الدّين السّبكيّ فرّعوا عليها الفروع التّالية‏:‏

أ - وجوب غسل القدمين لمن شكّ في جواز المسح على الخفّين أو على الجوربين وما إلى ذلك‏.‏

ب - من شكّ في غسل إحدى رجليه وأدخلهما في الخفّين - مع ذلك - لا يباح له المسح عليهما‏.‏

ج - وجوب الإتمام لمن شكّ في جواز القصر‏.‏ ويمكن أن يكون ذلك في صور عديدة‏.‏